قال الراوي... البارحة أكملت لكم قصة الشاعر ماهر البدوي الذي تخفى في زي بائع الأمشاط والمرايا ووقف تحت شرفة حبيبته الأميرة فينوس بنت سلطان الجزر الأربع.
نحن أيضاً كنا أربعة أشباح وخامسنا الليل حينما تكلم الراوي.. لقد قال: البحر كان يعلم ويبارك، والجزر الأربع والسماء، لكن الناس في تلك القلاع العائمة يكرهون الحب بل يكرهون حتى الشعراء.. وقالوا: قد أحبت شاعراً صعلوكاً لا يملك من حطام الدنيا غير خرج محشو بالكتب والكراريس.. فهل عجزت الدنيا عن أن تلد غير الشعراء.. الشعراء فقراء.. كلهم صعاليك، رأسمالهم هذه البضاعة الفاسدة التي اسمها الحب... وقال شيخ من بطانة السلطان -تجارة الشعراء كاسدة في البدء وبضاعتهم فاسدة منذ الأزل.
ومضى الراوي يقول، والليل لم يزل في أوله ونحن أربعة، والكون فقاعة كبيرة علمها عند علام الغيوب، ونحن أربعة.. لقد باح الليل بسر الهوى الفاضح وكذلك الجزر الأربع والسماء والبحر...
هل رآها بائع الأمشاط والمرايا في ذلك المساء.. لم يكن وجه فينوس مثل الوجوه، ولكنه الشوق النبيل إلى معانقة الكون بأسره.
وعيناها... رباه "هاتان لم تكونا عينين" ولكنهما النداء والصد، الإثم والغفران، الحياة والموت، وكان الشاعر البدوي يعرف تينك العينين وسر السماء المودع فيهما، شعرها كان ثملاً معربداً ومتعباً يود لو يستريح على كتف عاشق مذبوح.
هل عانق خصرها ساعة بائع الأمشاط والمرايا... لم يكن خصراً ولم يكن كشحاً هضيماً، ولكنه مشنقة يتأرجح من تحتها جسد غريب.
فينوس يارفاق الظلام.. امرأة الفجيعة والموت، وأنثى النداء المحموم والعويل، وفي ليل الصبوات والسأم تلتقي بكر وتغلب وعبس وذبيان، وقلوع الشاعر البدوي نشرت فأبحر في الدماء، والحب... الحب هذه الفجيعة والحسرة، الحب والموت صِنوان في بدء الخليقة، والتقت بكر وتغلب وعبس وذبيان، الحرب في الجزر الأربع والغريم واحد والقاتل على مرمى البصر والمقتول واحد، وفي قلب الموت شاعر مضرج بدمائه ويتلو.. ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني... وبيض الهند تقطر من دمي.
لكن الرماح السمهرية ظمأى للدم الملوث بالحب... لله ما أغلى دم الشاعر العاشق لقد مات ماهر البدوي.. قتلوه تحت شرفة الأميرة...
في ساعة توقف فيها البحر عن المد والجزر، وليس في الغابات طير يغني، لا يسمع للنهر خرير، لقد توقف الكون عن النمو تلك الساعة الرهيبة من الزمان، لقد ضاعت أنفاسه عبر الأثير، تلك الأنفاس المضمخة بعبير الضفاف والأودية البعيدة، لقد طالما بثها لفينوس عبر تلك القصبة السماوية، وذلك الناي المغرد، الناي الذي لخص في أنَّاته أشواق الشباب وحزن المشيب..
ومضى الراوي يقص علينا ونحن ننصت خاشعين، لقد كان يتحدث بيننا، نحن جلوس، لكن صوته في الواقع كان يأتينا من مكان بعيد من فراغات هذا الكون.
قال:... لقد كان شاباً غريباً، يجوب ذاك الأرخبيل كلما أتى المساء،وكان وهو يدفع تلك العربة الصغيرة التي يبيع عليها الأمشاط والمرايا، لا يبدو عليه التعب ولكنه الحزن النبيل، حزن الشعراء، وذوي النفوس الكبيرة، كان على الدروب يرمي بثقل جسده الضعيف على العربة الصغيرة التي يدفعها فتبدو وكأنها هي التي تقوده إلى حيث تشاء وكان إذا نودي من تلك الشرفات العالية، توقف برهة ورفع بصره إلى السماء وحلق به في الآفاق كأنه يبحث عن وديعة في قبة الكون وكأن الصوت يأتيه من مكان ما من هذه القبة حتى إذا ما انتفض الصوت في طيف مليحةٍ تتسربل في حياء أنوثتها، باعها مالديه من بضاعة الزينة بلا اكتراث ثم مضى على الدروب.
كان ذلك شأنه، يوزع على الغيد المليحات تلك الأمشاط وهاتيك المرايا، بثمن وبدون ثمن، كان لا يسأل ولا يجادل في ثمن، إن أُعطِي أخذ بلا اكتراث وإلا فأعطى ومضى، لله ما أكثر المليحات في ذاك الأرخبيل، لكن مليحة واحدة ظل يحملها حزناً جميلاً بين الحنايا والضلوع، فكان إذا ماوقف تحت شرفتها وتطلع بعينيه السماويتين إلى ذلك المكمن الصغير الذي يشبه الهلال، تلك الأرجوحة الجميلة الناعمة المعلقة في فضاء القلعة حيث أطلَّت حبيبته أول مرة ورآها، في مساء كذلك المساء ومكان هو ذاك المكان، لقد رأى أول مارأى تلك الستائر الوردية الحالمة، كانت متدلية ومعقودة على جانبي الشرفة، لقد بدت لعينيه هذه الشرفة في ذاك المساء أرجوحة من أراجيح الجنة لا تمت بصلة إلى تلك القلعة المحضة التي تشمخ بقسوتها في فضاء الإنسانية..
وأطلت فينوس... كانت كائناً عذباً عذوبة صوت نايٍ متقطع يأتي من آخر الدنيا وأقاصي الكون. لقد كانت طيفاً حالماً كحقل من البنفسج والياسمين يفيق إثر يوم ماطر، ولفينوس جسد شفاف يعانق شفافية أرديتها عناق محموم.
وشاعر الأمشاط والمرايا كان ممسكاً بقصبة الناي وينفخ مفجوعاً حسرة آلاف السنين، هل كانت قصبة الناي تعرف أن أنفاسه آخر أنّات الشاعر المذبوح، هل كان المساء في تلك الفجاج يُشيِّع آخر الشعراء في صمت مهيب. لقد مات الشاعر البدوي، قتلوه تحت شرفة الأميرة فينوس.
عندما رأته ينفخ مزماره تحت شرفتها، وقعت تَسمع نشَّيج الناي، كان صوتاً حنوناً وشجياً كهمس لذيذ بجوار مدفأة في ليلة من ليالي الشتاء يعبث فيها الصقيع بنوافذ البيوت، وكانت أنفاسه المتقطعة المحمومة تتلاحق صعوداً إليها.. فاتكأت ومالت عليه حانية مسحورة، وانفلت شعرها من عقاله وهمى همى من أعلى الشرفة فضمخ الفضاء بعطر نفاذ ثم انسكب كالغيمة المنحلَّة على وجه الشاعر البدوي...
سبحان الله... هل رأيتم كائناً علوياً خرج على قيود الزمان والمكان.. هل علمتم عن كوكب حطم ناموس المدار وهوى في فج بعيد القرار، يارفاق الظلام، حريٌّ بالشاعر أن يقتل في ذلك المساء، فإنه لا يليق بالشاعر المتيم إلا أن يموت هكذا.
لقد قرأتم كثيراً من سير الحب ولا ريب، ولطالما تباهيتم أمام أقرانكم ومعشوقاتكم بأنكم تحفظون أسماء مشاهير العشاق ممن خلدتهم هذه الحياة، فهل تذكرون لي اسماً واحداً لم تكن نهايته مأساة..؟.. أنا أقول لكم... الحب العظيم هو تلك المأساة العظيمة التي تسمعون عنها ولاتعرفون عنها الكثير، وعزاء المحبين أنهم لا يرونها مأساة، فالعاشق العظيم هو الفاتح العظيم والبطل المغوار لا يرى في الحب إلا حرباً ضارية في صقيع سيبريا، فتراه حتى وهو يجود بآخر أنفاسه نبيلاً مترنماً.. ولم لا؟! فهو شهيد العاطفة النبيلة الذي سيذوب في فجر السماء السرمدي ولسوف يلتقي بمن أحب ومات.
ومضى الراوي يقص علينا نهاية الحكاية التي قصها علينا البارحة في مثل هذه الظلمة، لكن سمعي تمرَّد وكرَّ عائداً إلى قلبي مرة أخرى... وابتعد صوته شيئاً فشيئاً إلى أن تلاشى والتهمه الليل...
الليل موطن الصبوات والفجيعة، وفي غياهب الروح عواءٌ أليم، والقلب مفازةٌ يسكنها جارح الطير.
وفي نهر الطريق يسكن الليل، وعلى الرصيف غريب ينتظر، وتحت شرفة من شرفات المدينة يقتل ماهر البدوي. كان الشاعرالمقتول غريباً ومات بين غرباء هذا العالم الكبير، وأنا.. أنا أيضاً مسافر غريب، عبرت الصحراء مثلما عبرت البحر، لكنني تمرَّدتُ على الصحراء فأحببتُ البحرَ فكنتُ بذلك أول آبق صحراوي تمرد على أمه، لقد غضبتْ عليّ ولحقَتني لعنتها.. أنا البدوي المسافر وابن الصحراء العاق المحكوم عليه بالظمأ والحزن مدى الحياة..
أنا صاحب الحقيبة الحمراء، أسعى كمعظم دراويش العالم أتسول لنفسي مكاناً أقف عليه في طوابير الجياع.
وفي الربع الخالي من الكون.. فقدتُ بعيري وحملني السراب في تلك اللجة الحمراء، إلى حيث تستوي الحياة والموت، والأنوار والظلم، وعدوتُ في الفج العميق أطلب قطرة من ماء، رفعت عقيرتي المفجوعة إلى الطرف القصي من الكون أنادي.. وأنادي، لكن النداء ظل يتردد في تلك البقاع الموحشة من الكون..
أنا صاحب الحقيبة الحمراء... الغريب الذي أفرد لمركبه الشراع، ويوم رست مركبتي في مرفأ من مرافئ الدنيا، نظرتُ فإذا الصحراء والبحر يقتتلان وأنا بينهما كالذبيحة المعلقة كلاهما يقول إنه ملكي.. إنه لي وحدي دون سائر الوجود، رأيتُ البحر يلتهم الصحراء ورأيتُ الصحراء تلتهم البحر، كلاهما شرس ومخيف، وكلاهما قو لاحدود لجبروته... وأنا من أنا؟... مجرد كائن ضعيف من هذه الكائنات الحقيرة الصغيرة التي تدب على اليابسة أو تسبح في الماء، لكنني جزء منهما شئت أم أبيت... أنا الآخر بحر وصحراء، في داخلي بيداء لا حدود لآفاقها الموحشة، تنوح في أرجائها الغيلان والأشباح، وفي داخلي بحر مزمجر ليس له أول ولا آخر، سأفلت من حصار الصحراء، وسأفرُّ من أسر البحر، ولكن... هل أستطيع الفرار من ذاتي؟...
مصلوباً على جبين المأساة، وأنا البدوي الذي أضاع ناقته في الربع الخالي... حملت حزني على وعاء مملوء بالصدأ، وعند ذلك الرصيف المهجور من الكون ألقيته كما تلقى الزبالة القديمة لكنني ماكدتُ أخطو الخطوة الأولى عائداً حتى سمعتُ بكاء الرصيف فعدت مشفقاً على الرصيف المسكين وحملتُ زبالتي، فلما هبط الظلام حملته من جديد وقصدتُ ذلك الفج الغريب حيث النهر فوقفتُ على ضفته العجوز وسلمت عليه بسلام أهل الليل..
قال: من أنت أيها الظل؟
قلت: لا أعرف نفسي..
قال: ماذا تحمل في وعائك الصدئ؟
قلت: زبالة قديمة جمعتها من مزابل الحياة.. فلما تعبت منها وشقيت، جئت أرميها بين أمواجك يانهر...
قال لا طاقة لي بحزنك أيها الظل ولكنني سأعطيك عنوان الغابة.. وقال اقترب أيها الظل لأطبع علىشفتيك هذا العنوان:.... في الربع الخالي من السديم الثالث عند ملتقى الذكر والأنثى، والظلام والنور، والحياة والموت، والموت والحياة، والجهل والمعرفة، والجمال والجمال، والظل والشبح، والماضي والمستقبل، والإنسان والإله..
وأنا متوتر الأعصاب، مشبوب الشعور، معلق بين النداء والنداء، يملؤني الخوف والقلق، ويدق قلبي بسرعة عجيبة، أرى العالم كله وحشةَ ومتاهةَ عظيمة، وأراني طفلاً ضاع من أمه في زحمة الخلائق، فيا ضباب الشتاء... خبئني تحت جلدك واطويني كما يطوي الشراع واعتصرني نبيذاً المذاق ثم انشرني على صفحة المدى.. فأنا ياصديقي ذلك الشاعر الذي فقد الظل والنهر ومضى يحثو مسامَهُ ببارود القصيدة... أنا الدرويش المهرول ساعياً بين البكاء والبكاء... أنا ياصديقي ضيف العنكبوت..
وقالت الغابة.. منذ آلاف السنين كان يمر من هنا نهر، وأذكر أنك كنت صغيراً حينما كانت أمك الطيبة تحتطب من أشجاري اليابسة، لقد كان يحبك ذلك النهر لكنك لم تكن تعرف السباحة.. كنت شغوفاً بالجلوس على الضفاف، وكانت الصحراء منا على مرمى حجر.. أيه ياولدي.. لقد مات ذلك النهر، وكذلك تفنى الحياة.
ومضى الليل يمشي بخطاً ثابتة نحو غدٍ آخر وقافلة الزمان تضرب في وهاد السديم، وقال الليل... في مكان ما من هذا الخلاء الأبدي وعلى بعد ملايين السنين الضوئية من هذه الأرض، كواكب مبثوثة في فضاء لا نهائي مهيب، بعضها من ضخامة الحجم وهول المشهد مالا يحيط به الإدراك ولا يعلم أحد من أمرها إلا الذي فطر السموات والأرض وأحاط بكل شيء علما.
ومضى الليل يقول:.. كنتُ في بدء الخليقة أسافر عبر المجرات إلى تلك الجزر السديمية الهائلة فأكنس وحشتها ثم آتي بها إلى الأرض، وكنت أوزع الوحشة والهول على القلوب المشرئبَّة بأعناقها نحو السماء، كان ذلك دأبي وقافلة الزمان تمضي في مصبها المحزون، وقتها قالت الخلائق يأتي إله الشر، ولكنني لست إلهاً للشر كما أن الفجر ليس إلهاً للخير، ولكننا سفران من أقدم أسفار الوجود باركنا الله ربنا في البدء.. لقد فتحنا لأول الخلق آدم وحواء ونظرا في فصلٍ من صفحاتنا الكثيرة ولا زالت الأجيال جيلاً إثر جيل تقرأ في صفحاتنا وتحاول فك طلاسمها، في تلك الليلة نفسها تكلمت صورة الأنثى التي علقتها في غرفة نومي، لقد قالت: .. ستظل مصلوباً على وجهي أيها البدوي الحزين، فماذا تفتدي بربك؟...
وتكلّم شخص آخر يسكن في إهابي فقال:... إنه يفتديني أنا أيتها الأنثى المشاغبة، قالت: لكنني أنا العدم...قال: وأنا الوجود.
ومضى الرجل المحزون الذي يسكن في إهابي يسرد لليل وأكداس الظلام فصلاً من مأساة الحب والموت، والحزن والظمأ.
قال: .. في البدء كانت المرأة ضباباً في البحار المتجمدة وفي حقول العالم البارد الذي لا تشرق فيه الشمس، وكان الكون كهفاً من كهوف الصقيع، وأنا الغريب الذي يتجمد في البحار الميتة.. بحثت عن المرأة في كل صقع بارد وفي المغارات البعيدة وفي وادي العاصفة البيضاء... قابلني شيخ البطريق الكبير يقود سبعين حفيداً بين الشعاب المتجمدة.
قال سلامٌ أيها الإنسان الذي باركه الله في الأعالي، ثم ارتضاه خليفة على الأرض يحكم فيها حيث يشاء.
قلت سلام أيها الشيخ الوقور وبورك في نسلك الحميد.
قال عمّ تبحث أيها الإنسان في بقاع الزمهرير ووادي العاصفة البيضاء الذي ماطلعت عليه شمس سبعين عاماً.
قلتُ أبحث عن الفجر الرمادي في مغارة الضباب.. لقد خطف امرأتي أيها الشيخ الجليل وقيدها بالدخان المسحور في مغارته.
أومأ الشيخ لأحفاده فجلسوا على صخرة من صخور الجليد، ثم اقترب مني وأخذ بيدي فجلسنا على صخرة أخرى.
قال ياولدي... لقد خطف باريس العاشق هيلين الجميلة، فقامت الحرب الضروس وتدافع الأبطال في ميادين القتال، ثم صرع أخيل الشجاع هكتور الجبار واستلهم هومير ملاحم الأبطال والدماء التي تسيل في البطاح وفي الجبال فتغنى وشعر... للتاريخ ياولدي ذاكرة انتقائيّة، لقد خلد أشياء وغابت عنه أشياء: هل وقف التاريخ العجوز ساعة في هذي الوهاد المظلمة؟ في هذا المكان الذي تجمد منذ آلاف السنين؟... كانت سواكن العذراء راعية البجعات البيضاء، صدق ياولدي انها كانت من شفافية الماء الذي يسيل بين صخور الجليد... ونحن أطفال أشقياء تربصنا بها في فجر عيد الشمس المجيدة في واحدة من دوراتها السبعينية، نظرنا إليها ياولدي وهي تنضو عن جسدٍ مارأينا مثلهُ أردية الحضارة والأدب، عارية كانت والبحيرة تغفو على وسائد الفجر القدسي الذي ماطلع قبل سبعين عاماً في فجاج الزمهرير، ونحن صبية أشرار ياولدي رأينا حزمة من شعاع علوي يخصب جسدها فتوهج حتى الإشعال وخلناه سيتفجر... هل تراني أبالغ ياولدي؟! كلا والذي نفسي بيده.. لم يكن مشهداً مسحوراً فحسب، ولكنها الحياة في أعنف تجلياتها.
في ذلك المساء ياولدي.. عادت البجعات الصغيرة البيضاء ولكن سواكن العذراء لم تعد الغطاء الأبيض ينسحب بارداً على جسد الأرض، والناس في إرجائها القصوى والدنيا يتصارعون في فرح محموم وفي حزن محموم، يمشون في فرحة العيد غير أنهم يشيعون جسد الأرض إلى مثواها الأخير. تحت الغطاء الأبيض جسد مسجى مغمورٌ ببرود الفناء والموت، وفوقه وحواليه تمشي الحياة زاخرة إلى مصبها المحزون، والخلائق تسير لاهية تغني لأفراح الحياة وترقص مغتبطة بسحر الوجود وفتنة الدنيا.
ومضى الشيخ يقول... وانحدرت الشمس المجيدة في ذلك اليوم ومالت عن وادي العاصفة البيضاء ثم ابتلعتها اللجَّة، وشيَّعتها الخلائق عند الغروب وشيعوا معها سواكن العذراء راعية البجعات الصغيرة البيضاء.
ونهض الشيخ يتحامل على جسد واهن وكان قد بلغ من الكبر عتيا، ثم نهض من بعده الأحفاد ومضوا يشقون درباً في الجليد.
والليل مابرح يقود روحي نحو آفاق أكثر ظلمة ووحشة، ووحيد أنا وغريب في متاهات البرد والصقيع أمضى فتختفي عبراتي وتشنقني كلماتي.. وأنا الملاح اليتيم والعيون مرافئ مجهولة، في كل بحر منارة ومأساة وفي كل مرفأ علم للهداية وللضلال.
لقد قالت لي ذات يوم.. سأريح قصيدتك المتعبة بين دفاتري ولتكن لي نعم الذكرى، ويوم أعطيتها القصيدة توهمت أن أشتريها بلغة السماء وعاطفة الأعالي ولكنها ظلت تقول لي أنت أجمل ذكرى وستظل كذلك إلى يوم البعث، وأنا الحاضر أبداً في زوايا عينيها.. وضعتني تمثالاً رائعاً في متحف ذكرياتها الجميلة.
في اليوم الأول من عام مجهول في ساعة حزينة ومجهولة هي الأخرى، عرفتها وحفظت في خشوع الظلام اسمها، ودخلت معبد عينيها أصليّ.
في اليوم الثاني نهضتُ مع الشمس، ثم التقينا في منتصف الطريق، كانت قادمة لتعمل وكنت ذاهباً أبحثُ عنها.. أكان مفروضاً أن تأخذني في حضنها؟ هل كنت أجرؤ على اختطافها مثلما فعل باريس مع هيلين، أم تراني خليقاً بأن أموت تحت شرفتها مثلما مات ماهر البدوي تحت شرفة الأميرة فينوس، لكنها سلّمت عليَّ سلام الأغراب ثم طفقت تعمل لا مبالية بما يحدث في الكون.
في اليوم الثالث كانت منحنية في رداء أحمر شدَّته إلى وسطها بعنف فتأرجح جسدٌ إلى أسفل واشرأب جسدٌ إلى أعلى، وكانت تسوي مساكب القرنفل والياسمين والزنبق، ويوم اقتربتُ منها كنتُ أهذي وكانت تجهل ما أقول وكنتُ أجهل، نظراتها إليّ من تحت اللثام. لا أعرف من خارطة وجهها سوى عينيها.. العينان فقط هما اللتان أعرفهما فرأسها كان معصوباً بقبعة عمالية ووجهها كان يموت من تحت اللثام، لكن عينيها كانتا خنجراً مغروزاً في كبدي ومقصلة تدق عنقي ألف مرة كل يوم، كانت تعمل دائماً بانشراح غريب وأحياناً أسمعها تغني بصوت فيه أنوثة متحفظة وشجن كثير وكنت مسحوراً أترك عملي وأمشي باتجاهها مشي نائم يتبع في موهن الليل قبيل من الجن، وكنت أمر قربها مرور رجل لا يعرف كيف يستميل إليه النساء، لكنني كنتُ أتخبط في الحديث خبط عشواء، وكنت أهذي بأشعار أحفظها وأخرى أرتجلها في حينها وكانت تحس بأنفاسي لاهبةً تسوط جسدها، لكنها كانت حبيسة انفعالات لا أعرفها، وكنا عالمين مختلفين يفصل بينهما خلاء أبدياً ليس له أول ولا آخر.
كنت لا آراها إلا منحنية على مساكب الورد، وعندما تنتصب قامتها لحظة.. كنت ألمح في عينيها فرحاً يولد ويموت في ثانية.
وأنا الآتي من كوكب الذكرى، من تلك المدن النجمية البعيدة التي تدور حول الشمس.. فارقتها في اليوم الرابع وحملت حقيبتي الحمراء الحزينة ذات ليلة تنوح في أرجائها الريح وسبحت في نهر الطريق عائداً أو ذاهباً لا أعلم.
حفظتُ في اليوم الأول خارطة جسدها وكانت ترتدي تنورة مخططة طولياً بألوان كثيرة أذكر من بينها خطوطاً زرقاء وصفراء فاقع لونها.
في اليوم الثاني جاءت صباحاً في كوكبة من البنات، لكنها كانت ترتدي فستاناً أسود وكانت تمشي على استحياء.
اليوم الثالث كان الفستان الأسود نفسه، وكان بالياً وجميلاً حتى الفجيعة والموت، وفي اليوم الرابع كان بلون البنفسج وكان زلقاً عندما تمشي أو تنحني أو تنتصب، رأيتها فيه وتخيلت مابداخله وبكيت في تلك الليلة كمثل الذي يبكي لأول مرة واستيقظتْ في داخلي ينابيعُ الحزن والنشيج وتأوَّه الليلُ والجبل وحقل القرنفل والزنابق والخراف التي أطعمها الشعير وأسقيها الماء، والدجاجات التي أبعثر لها الحب صباحاً ومساءً حتى الكلاب الثلاثة التي تشاطرني المسكن نبحت في تلك الليلة نباحاً ممضاً ومفجعاً لكن تلك العيون مابرحت تراني من تحت القبعة وفوق اللثام، وظللت أنا بين تلك الرموش وتلك الضفاف.. غريباً يسير في قافلة الزمان.
وكنتُ حاضراً مادمت خارج عينيها، لكن ما إن أدخل فيهما حتى أصبح ذكرى يغمرها تراب الأبدية ولحظةً مندثرة كمثل بريق النيازك التي تحتك بغلاف الأرض.
أصحيح أن آخر الصحبة الفراق...؟
العيون ينابيع أحلامنا في فجرها الأول... ذلك الفجر الكاذب، لقد طلبناها ونحن ركب القافلة المشؤومة، وكان ذلك في عام الظمأ العظيم وعام الحزن الجليل.
لقد كان بيننا وبين العيون خلاءٌ أبديٌّ مسكون بالجن والعفاريت وأشباح الظلام، يومها تذكرنا أن شيخ الخلوة في الحي القديم قد قال:"إن الأرض لا تطوى إلاّ لصالح أو نبي... لكن الفقيه الذي درسنا القرآن لا يعد طلب العيون من الصلاح في شيء.
وأنا صاحب الحقيبة الحمراء... ظامئ وردتُ لعينيِّ صاحبة القرنفل والزنابق وظامئٌ صدرتُ من عينيها.. فارقتها كمثل يوم حطَّتْ ركابي في حقلها، ومشيتُ أطلب عيناً أخرى لفراق آخر، ووطناً جديداً للتقى، وألماً عظيماً للتواصل مع روح الكون...
وقال الليل: "... ركاب المحطة الأخيرة حتماً سينزلون، ويبقى السائق المنذور للطرقات وحده ولكنه معي... رواد الحانات التي تتوارى بين شعاب المدينة في حياء، حتماً سينهضون مترنحين، تفوح من نواصيهم رائحة الشراب، وفي قلوبهم قلق الحياة والهَّمُ الذي ينزلُ مع نزول الشعاع الأول..لكن ساقي الحانة العجوز يبقى وحيداً وكسيراً غير أنه معي.
ومضى الليل يقول... أفق الحياة طيف امرأة شهية التكوين، ثم تبخرت وانقشع الطيف.. كانت تحمل في خبايا نفسها وعلى ضفاف عينيها بذرة فنائها... نعم أيها الأشباح الذين تظنون أنكم أحياء... كلكم موت وهلاك، كل واحد منا يحمل في داخله بذور الفناء. جاء من أقصى الكون صديق، وغاب من داخل النفس صديق، ولد في الليل طفل وعند الصباح مات شيخ، قطاران في سفر دائم لكل منهما وجهة مجهولة، قوافل وأمتعة وركاب، نساء وشيوخ وشبان، مال وبنون، غناء و حداء وشعر وعلوم وفلسفة كلها محطات للسفر.. أقسم أنها محطات لقافلة الزمان في سيرها الحثيث نحو مصبها المحزون..
***
وأنا صاحب الحقيبة الحمراء والمقلة الدمعاء...
اليأس في الآفاق القاصية والدانية، في بلاد الحر وبلاد الصقيع، وعلى الصحراء وعلى البحر، في المحيط المتجمد والمحيط المذاب، في ليالي الشتاء والزمهرير والمطر، ورياح السموم والقيظ المحموم في الصيف.
والحب على الصواري وفي القلوع التي أفردت ذاهبة.. وفي القلوع التي لاحت مع اليم عائدة في مرافئ المدن البعيدة التي ندخلها في آخر الليل، في فنادق الترف وعلى (البلاجات) وفي مناخات المترية.
ونحن غرباء.. لم تستقبلنا الحدائق بالدفوف والزغاريد، لا ولم تطلق في سماواتنا نوارسها الجميلة... لقد لثمت فتياتها فَصِرنَ كجيشِ يوسف بن تاشفين...
ونحن غرباء.. كانت قلوبنا قلاع محصنة، لكن الحصار كان طويلاً جداً والزاد كان قليلاً جداً وعلى كل بابٍ حصان طروادة، فما لبثت قلاعنا أن سقطت وداهمها الطوفان، غرباء كنا في الشعاب وعلى الدروب، نسير حيثما طاب لنا المسير وننام حيثما طاب لنا النوم.. وحيثما بركت الناقة في مناخها المحتوم.. أنزلتُ رَحْلَها وبركتُ بجانبها.. وأنا المسافر الغريب... مناخ ناقتي مناخي..
وعلى كل دربٍ فتاة ملثمة، وفي كل حقلٍ قرنفل وزنابق، والعيون ضفاف المأساة وينابيع للحزن القديم، والحب في كل الشعاب فصل من فصول الهزيمة والانكسار وفي مدن النوارس الجميلة.. ميدان للحب، بيد أنه ميدان إسباني أو "فورم" رومي قديم... والعاشق مصارع ثيران وحشية، ومنظر الدم الملوث بالحب يُسرِّي عن أكابر القوم وأبناء النعيم الذين أضناهم الرقاد الطويل بين ملاحق السعادة والعيش الخضيل...
في البدء كان الحب... وكانت الأرض عذراء، في البدء كان أبونا آدم وأمنا حواء وقيوم السماوات والأرض بداية البدايات ومنتهى النهايات.
وفي البدء كانت الخطيئة وأول الذنوب والآثام.. لقد تكبر إبليس ثم كفر.
في البدء كان السفر، وكان الاغتراب ورحلة الإهباط من الجنة الخضراء.